المضحك في كتاب "البخلاء" للجاحظ 1- البخل من موضوعات للهزل والضحك : يعتبر البخل من الظواهر الاجتماعية التي تفشت في المجتمع العباسي، والتي أثمرت مذهبا خاصا بها ، تبناه مجموعة من البخلاء ، حتى أن هذه الظاهرة كانت مثار نقاش كبير بين الكتاب وسالت بموجبها أقلام كثيرة، معبرة عنها تارة، وناقدة لها ولأصحابها ثارة أخرى .ويعد الجاحظ : أبو عثمان بن بحر (ت 255ه) من أبرز النقاد والأدباء الذين سخروا من البخلاء ونددوا بغفلتهم في الحياة، بل وانتقدوهم نقدا لاذعا، وبما أن الجاحظ ينتمي إلى الفترة التاريخية التي نحن بصدد دراستها ، فإننا سنقف على ظاهرة البخل وعلاقتها بالهزل والضحك من خلال كتاب " البخلاء" الذي يعد – حسب علمنا – أهم مرجع في الموضوع في العصر العباسي مستفدين في الوقت ذاته ببعض المراجع التي تناقش الموضوع نفسه . 1-1 مفهوم البخل : نعلم أن البخل ضد الكرم والسخاء، وأبخله وجده بخيلا، ومنه قول عمرو بن معد يكرب : يا بني سليم، لقد سألناكم فما أبخلناكم ... والمبخلة الشيء 1الذي يحملك على البخل، وفي حديت النبي صلى الله عليه وسلم: الولد مجبنة، مجهلة، مبخلة 1 وأضاف الزمخشري "وفلان أصيل في اللؤم بحال .ماله عن كريم ولا خال، ويقال: لا يكاد يفلح البخيل، إذ أبرها البخيل. وقيل لرجل: بفلان خبل وبأخيك بخل، فقال : الخبل أهون من البخل، والمبخل فداء للمخبل"2 فكل المعاجم اللغوية التي ذكرنا والتي لم نذكر تعتبر البخل ضد الكرم والجود والسخاء ، بيدأن عدم تحديد الجانب الذي يشمله التعريف يجعل البخل شاملا لكل شيء ، وهو يسوغ لنا ملامسة الجوانب التي لحقها البخل في رسالة البخلاء للجاحظ وفي حياة هؤلاء البخلاء . وفي سياق الرسالة نفسها عرف الجاحظ البخل ، ما مرة قال : " والبخيل عند الناس ليس هو الذي يبخل على نفسه فقط ، فقد يستحق عندهم اسم البخيل ، ويستوجب الذم ، من لا يدع لنفسه هوى إلا ركبه، ولا حاجة إلا قضاها، ولا شهوة إلا ركبها، وبلغ فيها غايته، وإنما يقع عليه اسم البخيل إذا كان زاهدا في كل ما أوجب الشكر ، ونوه بالذكر ، وأدخر الآجر"3 فالجاحظ قارب مفهوم البخل من خلال الموصوف به، أي البخيل الذي – كما قال – يزهد في كل ما يوجب الشكر، وينوه بالذكر ويدخل به صاحبه الأجر، بمعنى أن البخل يجعل صاحبه بعيدا عن المكارم والمحامد، وقريبا من الذم والمدح – يقول الجاحظ " وليس عجبي ممن خلع عذراه في البخل، وأبدى صفحته للذم، ولم يرض من القول إلا بمقارعة الخصم، ولا من الاحتجاج إلا بما رسم في الكتب، ولا عجبي من مغلوب على عقله، مسخر لإظهار عيبه، كعجبي ممن قد فطن، وعرف إفراط شحه.4 ومن تعاريفه للبخل أيضا، ما شمل أوصاف البخيل مقارنا إياه بأوصاف أخرى للجواد والشجاع و المستحى، ويتجلى ذلك في قوله: " ونحن لا نجد الجواد يفر من اسم الشرف إلى الجود، كما لا نجد البخيل يفر من اسم البخل إلى الاقتصاد، ونجد الشجاع يفر من اسم المنهزم، والمستحيي يفر من اسم الخجل، ولو قيل لخطيب ثابت الجنان وقاح لجزع "5 بناء على ما سبق نستخلص ما يلي : - البخل ضد الكرم والجود . - البخل شمل جميع الجوانب في حياة البخلاء من مأكل ومشرب وملبس وإنفاق .... - البخل هو الزهد في كل ما أوجب الشكر ، ونوه بالذكر ، وأدخل الأجر . - البخل يرتبط بالقدح والذم والتحقير - البخيل يرتبط بالاقتصاد والإقتار في كل شيء. - مذهب البخلاء : لاشك أن استفحال ظاهرة البخل في العصر العباسي دعت أصحابه إلى الانضواء تحت مذهب خاص بهم يتدارسون فيه قضاياهم، وما يهمهم للدفاع عن مذهبهم والاحتجاج له، وقد شكل البخلاء مذهبا قويا مؤثرا في التشكيل الاجتماعي للعصر العباسي، إذ كان لهم ناد يجتمعون فيه، وحلقة يقعد فيها أصحاب الغنية، والبخلاء يتذاكرون الإصلاح وطرق البخل ، ومكانهم في الأغلب المسجد، حتى سموا بالمسجديين، ويبدو أن مسجد ابن رغبان بحي البصريين في بغداد كان ملتقاهم، ومحط رحالهم، وكان على رأسهم فيه أبو عبد الرحمان الثوري، واجتمع له منهم عدد كبير، منهم : إسماعيل بن غزوان، وجعفر بن سعيد، وخاقان بن صبيح، وعبد الرحمان العروض والحزامي عبد الله بن كاسب، ومنهم سهل بن هارون، وأبو يعقوب الخريمي، وكان أبو سعيد المدائني إماما للبخل في البصرة في ذلك العصر، وكان البخل عندهم دعوة ومذهبا اقتصاديا، وكان الثوري يحتج للبخل، ويوصي به ويدعو إليه 6. ويقوم مذهب البخلاء على التناصح والتذاكر في البخل من خلال حفظ المال، وعدم الإنفاق والتقتير على الأهل، كما يرتكز مذهبهم أيضا على الوصايا والنصح لأبنائهم بسلك مسلكهم، وكيفية تدبير أمورهم ومن وصاياهم نذكر وصية أسد بن جاني لابنه قال : " وأعلم أنه إذا كان في الطعام شيء ظريف، ولقمة كريمة، ومضغة شهية، فإنما ذلك للشيخ المعظم، والصبي المدلل،ولست واحدا منهما، فأنت قد تأتي الدعوات والولائم، وتدخل منازل الأخوان . وعهدهم باللحم قريب، وإخوانك أشد قرما منهن إليك، وإنما هو رأس واحد، فلا عليك أن تتجافى عن بعض، وتصيب بعضا، وأنا بعد أكره لك الموالاة بين اللحم ، فإن الله يبغض أهل البيت اللحمين"7، وقال له أيضا: " أي بني عود نفسك الأثرة، ومجاهدة الهوى والشهوة، ولا تنهش نهش البراذيين، و لا تدم الأكل إدامة النعاج، ولا تلقم لقم الجمال، قال أبو ذر لمن بذر من أصحاب الرسول صلي الله عليه وسلم يخضمون ونقضم والموعد الله 8 لقد ركز أسد بن جاني في وصاياه لابنه على جانب أساسي في حياة الإنسان، وهو المأكل وكأنه يرى أن البخل على النفس بما تشتهي من لذات العيش هو الوسيلة الوحيدة لحفظ المال، بمعنى أن الشهوات خاصة شهوات البطن، هي جالبة الفقر والحاجة ، وقـد أكـــــد ذلــك بقوله: إن الــلـه فضلك، فجعلك إنسانا، فلا تجعل نفسك بهيمة، ولا سبعا واحذر سرعة القطة، وسرف البطنة، وقد قال بعض الحكماء : إذا كنت بطينا فعد نفسك في الزمني، وقال الأعشى ( والبطنة يوما تسفه الأحلاما ) 9، كما أوثرت عنه أقوال كثيرة تبغض اللحم، منها "( إياكم وهذه المجازر ، فإن لها ضراوة كضرواة الخمر ) ومنها أيضا : قوله : (مدمن اللحم كمدمن من الخمر)"10. والعجيب في هذه الوصايا أنها لم تنطلق من فراغ، وإنما تبنى على أسس متينة يكاد القارئ / المستمع أن يصدقها من الوهلة الأولى دون مراجعتها، أو التمعن فيها لقوة الحجج والبراهين التي تساق لها . كربطها مثلا بقتل النفس، وهو محرم شرعا، قال : " واعلم أن الشبع داعية البشم، وأن البشم داعية السقم، وأن السقم داعية الموت ، ومن مات هذه الميتة ، فقد مات ميتة لئيمة، وهو قاتل نفسه، وقاتل نفسه ألوم من قاتل غيره، وأعجب إن أردت العجب ! وقد قال الله جل ذكره ( ولا تقتلوا أنفسكم ) وسواء قتلنا أنفسنا أو قتل بعضنا بعضا، كان للآية تأويلا"11 ، وإلى جانب الموت ربط الوصية بالصلاة التي تعد ركنا أساسيا من أركان الإسلام، لدى يجب على المرء القيام بها، حيث اعتبر أن ممتلئ البطن لا يمكن أن يقوم بالركوع على حقيقته، كما لا يمكنه أن يؤدي السجود على حقيقته. قال " يا بني والله ما أدى حق الركوع، ولا وظيفة السجود، ذو كظة: ولا خشع لله ذو بطنة ! والصوم مصحة ، والواجبات عيش الصالحين ، وصدق بن كلدة، حيث زعم أن الدواء هو اللازم ، وأن الداء هو إدخال الطعام في إثر الطعام 12 ونحب أن نضيف بعض الآراء والمواقف التي تبرز إلى جانب ما ذكرنا مذهب البخلاء ورؤيتهم للعالم، ومنهم تمام بم جعفر الذي كان بخيلا على الطعام مفرط البخل، وكان يقبل على كل من أكل خبزه بكل علة، ويطالبه بكل طالبة، وحتى ربما استخرج عليه أنه لابن جلاد الدم 13، قال " أو لسنا قد نراهم يشتمون بالنهم وبالرغب وبكثرة الأكل ، ويمدحون بالزهادة وبقلة الطعام ؟ أو ليس قد قال النبي صلى الله عليه وسلم (من أدله على الحسناء القتين ؟ )، وقد ساب رجل أيوب بن سليمان بن عبد الملك . فقال في بعض ما يسبه: ماتت أمك بغرا وأبوك بشما وبعد فهل سمعتم بأحد قط فخر بشدة أكل أبيه ، فقال: أنا ابن آكل العرب ؟14، ومن أرائه أيضا في البخل ما أورده في قوله : " فإن قال أصبحت ، وأنا لا اشتهي شيئا ، قال : إياك أن تأكل قليلا ولا كثيرا، فان أكل القليل على غيره شهوة، أضر من الكثير مع الشهوة، قال الخوان: ويل لي ممن قال لا أريد ! وبعد ، وكيف تشتهي الطعام اليوم، وأنت قد أكلت بالأمس طعام عشرة15. وبالإضافة إلى الأمثلة التي سقناها لتبين مسالك البخلاء في إشاعة البخل وترسيخه في واقعهم ، بل والتأكد على مذهبهم من خلال وصاياهم وآرائهم وأقوالهم التي تلح على ضرورة الأخذ بمذهب البخل، هناك أمثلة كثيرة في مظان كتاب البخلاء مما يعني أن الأمثلة التي اعتمدنا عليها لا تمثل كل ما أورده الجاحظ في كتاب البخلاء . ومما يبرهن على أن للبخلاء مذهب خاص هو أنهم ينقسمون إلى فرق كثيرة اتخذ بموجبها البخيل الذي ينتمي لكل صنف من هذه الأصناف اسما معينا وتتجلي في قول الجاحظ " المخطراني الذي يأتيك في زي ناسك، ويريك أن بابك قد قور لسانه من أصله، لأنه كان مؤديا هناك، ثم يفتح فاه كما يصنع من يتثاءب، فلا ترى له لسانا البتة، ولسانه في الحقيقة كلسان الثور، وأنا أحد من خدع بذلك، ولا بد للمخطراني، أن يكون معه واحد يعبر عنه، ولوح أو قرطاس، قد كتب فيه شأنه وقصته .والكفاني الذي يتجنن ويتصارع ويزبد، حتى لا يشك أنه مجنون لا دواء له، لشدة ما ينزل بنفسه، وحتى يتعجب من بقاء مثله على مثل علتة، والبانوان الذي يقف على الباب ويسل الغلق، ويقول: بانوا وتفسيرا ذلك بالعربية يا مولاي ! و القرسي الذي يعصب ساقه وذراعه عصيا شديدا ، ويبيت على ذلك ليلة، فإذا تورم واختنق الدم، مسحه بشيء من صابون ودم الآخرين، وقطر عليه شيئا من سمن، وأطبق عليه خرقة، وكشف بعضه، فلا يشك من رآه أن به الأكلة أو بلية شبه الاكلة .والمشعب الذي يحتال للصبي حين يولد، بأن يعميه أو يجعله أعشم أو أعضد، ليسأل الناس به أهله، وربما جاءت به أمه وأبوه، ليتولى ذلك منه بالغرم الثقيل، لأن يصبر حين إذن عقدة وغلة، فأما أن يكتسبا به ، وأما أن يكرياه بكراء معلوم، وربما أكروا أولادهم ممن يمضي إلى افريقية ، فيسأل بهم الطريق أجمع بالمال العظيم ، فإن كان ثقة مليئا ، وإلا أقام بالأولاد والأجرة كفيلا . والعواء الذي يسأل بين المغرب والعشاء ، وربما طرب إن كـان له صــوت حســن، وحلـــق شجــي والأسطيل هو المتعامي، إن شاء أراك أنه منخسف العينين، وأن شاء أراك بهما ماء، وإن شاء أراك أنه لا يبصر للخسف ولريح السبل . والمزيدي الذي يدور معه الدريهمات ويقول هذه دراهم قد جمعت لي في ثمن قطيفة فزيدوني فيها يرحمكم الله، وربما احتل صبيا على أنه لقيط، وربما طلب في الكفن، والمستعرض الذي يستعرضك وهو ذو هيئة، وفي ثياب صالحة وكأنه قد هاب من الحياء ويخاف أن يراه معرفة ثم يعترضك اعتراضا، ويكلمك خفيا . والمقدس الذي يقف على الميت، يسأل في كفنه ويقف في طريق مكة على الحمار الميت والبعير الميت، يدعى أنه كان له، ويزعم أنه قد احصر، وقد تعلم لغة الخراسانية واليمانية والإفريقية، وتعرف تلك المدن والسكك والرجال، وهو متى شاء كان من إفريقيا، ومتى شاء كان من أهل فرغانة ،ومتى شاء كان من أي مخاليف اليمن شاء !والمكري صاحب الكداء .والكعبي أضيف إلى أبي كعب الموصلي، وكان عريفهم بعد خالوية سنة على ماء والزكوري هو خبز الصدقة كان على سجني أو سائل 16، والجاحظ حين ذكر هذه الأوصاف للبخلاء وأساليبهم في كسب للمال، إنما فسر ما ذكره خلوية ، قال : " هذا تفسير ما ذكر خلوية فقط، وهم أضعاف ما ذكرنا في العدد ، ولم يكن يجوز أن تتكلف شيئا ليس من الكتاب في شيء17. ورغم أننا أثبتنا أصناف البخلاء من خلال ما نعتوا به من أسماء وطر قهم في الحصول على المال والكسب من خلال قولة مطولة شيئا ما للجاحظ فإن توضيحها وتفسيرها يقتضي منا تبينها على الجدول التالي : . اسم البخيل أسلوبه في الحصول على المال - المخطراني - يأتي في زي نا سك – يريك أن بابك قد قطع لسانه من أصله – يكون معه شخص يعبر عنه – ومعه لوح أو قرطاس بكتب فيه قصته . الكغاني - يتجنن ويتصارع ويزيد ، ويبدو كأنه مجنون . البانوان - يقف على الباب ، وكأنه ارتج عليه ، ويصيح يا مولاي . القرسي - يعصب ساقه وذراعه عصبا شديدا حتى يختنق الدم ثم يمسحه بالصابون ودم الآخرين ويقطر عليه شيء من السمن، ويطبق عليه خرقة، ويبدو وكأنه أصيب بالأكلة أو بليه تشبهها . المشعب - يعمي الصبي حين يولد أو يجعله أعشم أو أعقد، ليسأل الناس به ، أو يكتريه من أمه من أجل السؤال به . العواء - يسأل بين المغرب والعشاء وربما طرب إن كان له صوت حسن وحلق شجي الأسطيل - يتعامي ان شاء أراك أنه منخسف العينين، وإن شاء أراك أن بهما ماء - وإن شاء أراك أنه لا يبصر للخسف ولريح السبل . المزيدي - يدور ومعه الدريهمات، ويقول هذه دراهم قد جمعت لي في ثمن قطيفة فزيدوني يرحمكم الله . - يحتل صبيا على أنه لقيط – يطلب في الكفن . المستعرض - يستعرض الناس وهو في هيئة، وفي ثياب صالحة وكأنه قد هاب من الحياء، ويكلمك بصوت خفي وكأنه يخاف أن يراه شخص يعرفه . المقدس - يسأل في كفن الميت – يقف على الحمار الميت والبعير الميت يدعى أنه كان له المكدي - صاحب الكداء الكعبي - أضيف إلى أبي كعب الموصلي وكان عريفهم بعد خالويه الزكوري - خبز صدقة كان على سجني أو على سائل تأسيسا على ما سلف يتضح أن البخلاء في العصر العباسي تشكلوا في إطار مؤسسة مركزها المسجد حتى لقبوا بالمسجديين، وهو ما دفع الجاحظ في كتاب البخلاء أن يخصص لهم فصلا أطلق عليه اسم قصة أهل البصرة من المسجديين. قال في حقهم :" قال أصحابنا من المسجدين: اجتمع ناس في المسجد ممن ينتحل الاقتصاد في النفقة، والتنتمية للمال، من أصحاب الجمع والمنع، وقد كان هذا المذهب ، صار عندهم كالنسب الذي يجمع على التحاب، وكالحلف الذي يجمع على التناصر، وكانوا إذا التقوا في حلقهم ، تذاكروا هذا الباب وتطارحوه وتدارسوه ، ( التماسا للفائدة واستمتاعا بذكره ) " 18. وبينا أيضا كيف أن البخلاء يبلغون أقصى جهدهم في ترسيخ مبادئ البخل من خلال إشاعته عن طريق أقوالهم ووصاياهم لأبناهم معززين ذلك بحجج وبراهين دامغة، كما اعتمدوا وافي ذلك على المسائل الحساسة ذات الطابع العاطفي والمقدس كالصلاة والقتل وغيرها ن وهم في مذهبهم تحت إمرة شيخهم وإمامهم في البصرة أبو سعيد المدائني ورغم أن مقصدهم واحد فإنهم يتكونون من ثلاثة عشر صنفا، ذكرناها أعلاه تختلف من حيث نعوث البخلاء وطرق حصولها على المال. وإذا سلمنا بأن البخلاء ينتمون إلى مؤسسة قائمة الذات في العصر العباسي فما هي تجليات البخل في هذا العصر ؟ وما هي الجوانب الأساسية من حياتهم التي لحقها البخل ؟ . 1-3- مواطن البخل في حياة البخلاء . يكاد البخل يسري على كل جانب من حياة البخلاء، حتى ليُصور إلينا أنه يسير مع البخيل أينما حل وارتحل ، فقد وجدناه كما ذكرنا سالفا في كلامه من خلال أرائه ومواقفه ، ووجدناه في نصائحه ووصاياه ، لكن هذه المرة سنحاول الإحاطة به من خلال معايشته له في حياته وغيرها، وهي مظاهر لممارسة البخلاء لهذه العادة المذمومة المستقبحة، وفي سياق توضيح هذه النماذج من البخل نسوق الحجج التي اعتمد عليها البخلاء في إعطاء المشروعية لما يقومون به، والجوانب التي لحقها البخل في حياة أصحابه هي كالتالي : 1-3-1- البخل في المأكل: وهو من أبرز الجوانب التي ركز عليها البخلاء في الشح والتقتير، بل هو من أكثرها حضورا في كتاب البخلاء للجاحظ، ومن ذلك ما أورده الجاحظ في رسالة سهل بن هارون إلي بني عمه الذين ذموا مذهبه في البخل قال: " وزعموا أنهم ترافقوا وتزاملوا، فتتناهدوا وتلازقوا في شراء اللحم ، فإذا اشتروا اللحم قسموه قبل الطبخ وأخذ كل إنسان منهم نصيبه فشكه بخوصة أو بخيط ، ثم أرسل في خل القدر والتوابل، فإذا طبخوا تناول كل إنسان خيطه وقد علمه بعلامة، ثم اقتسموا المرق، ثم لا يزال أحدهم يسل من الخيط القطعة بعد القطعة ، حتى يبقى الحبل لا شيء فيه ثم يجمعون خيوطهم ، فإن أعادوا الملازقة أعادوا تلك الخيوط ، لأنها قد تشربت الدسم ورويت 19، ويظهر البخل في المثال من خلال اقتسامهم اللحم قبل الطبخ، وكل منهم حصل على نصيبه وعلمه قبل أن يرسله إلى القدر، فما الذي دعاهم إلى هذا إذا كانوا لا يرغبون في المشاركة في كل ما يحويه القدر من لحم ومرق ، يجيب الجاحظ عن هذا . قال : " وليس تناهدهم . من طريق الرغبة في المشاركة، ولكن لأن بضاعة كل واحد منهم لا يبلغ مقدار الذي يحتمل أن يطبخ وحده، ولأن المؤونة تخف أيضا في الحطب والخل والثوم والتوابل، ولأن القدر الواحدة أمكن من أن يقدر كل واحد منهم ، على قدر، ويختارون السكباح ، لأنه أبقى على الأيام وأبعد من الفساد 20. وقد يدعوك البخيل إلى طعامه، بل إلى منزله، لكن دعوته تكون محفوفة بالحيل التي قد تبعدك عن طعامه وقد يورطك في بخله، ومن ذلك ماحكاه الجاحظ أثناء حديثه عن تمام بن جعفر الذي يعد من أشد البخلاء على الطعام كما ذكرناه سابقا. قال : " صحبني محفوظ النقاش من مسجد الجامع ليلا ، فلما صرت قرب منزله وكان منزله أقرب إلى مسجد الجامع من منزلي : سألني أن أبيت عنده، قال : أين تذهب في هذا المطر والبرد، ومنزلي منزلك، وأنت في ظلمة وليس معك نار، وعندي لبأ لم ير الناس مثله، تمر ناهيك به جودة ، لا تصلح . إلا له ! فملت معه فأبطأ ساعة ، ثم جاءني بجام لباء وطبق تمر – فلما مددت يدي قال ، يا أبا عثمان إنه لبأ وغلظة ! وهو الليل وركوده ثم ليلة مطر ورطوبة، وأنت رجل قد طعنت في السن ولم تزل تشكو من الفالج طرفا ومزال القليل يسرع إليك وأنت في الأصل لست بصاحب عشاء . فإن أكلت اللبأ ولم تبالغ، كنت لا آكلا ولا تاركا ، وحرشت طباعك ثم قطعت الأكل أشهى ما كان إليك . وإن بالغت بتنا ليلة سوء من الاهتمام بأمرك، ولم نعد لك نبيذا ولا عسلا، وإنما قلت هذا الكلام لئلا تقول غدا : كان وكان ! والله قد وقعت بين نابي أسد ! لأني لو لم أجئك به وقد ذكرته لك قلت : بخل به بدا له فيه . وإن جئت به ولم أحذرك منه، ولم أذكرك كل ما عليك فيه،قلت: لم يشفق علي، ولم ينصح، فقد برئت إليك من الأمرين جميعا ، وإن شئت فأكلت ومتت ! وإن شئت فبعض الاحتمال ونوم على سلامة ! فما ضحكت كضحكي تلك الليلة، وقد أكلته جميعا فما هضمه إلا الضحك والنشاط والسرور فيما أظن، ولو كان معي من يفهم طيب ما تكلم به لأتى على الضحك أو لقضي علي ولكن ضحك من كان وحده ، لا يكون على شطر مشاركة الأصحاب ."21 ففي آخر النص عبر أبو عثمان عن الأثر القوي الذي خلفه كلام محفوظ النقاش على نفسه فكان سببا في انفجاره بالضحك الشديد ، بل أنه أقر على أن ذلك الكلام بقدر ما ينطوي عليه من حيل البخلاء لكي يتخلصوا من الإنفاق ، فإنه يحتوي على طرافة وطيبة تؤثر في سامعه بل وتضطره للضحك ، وطرافة الكلام نلمسها في قول أحد البخلاء عوقب على قلة الضحك ، وشدة القطوب : أن الذي يمنعني من الضحك، أن الإنسان أقرب ما يكون من البذل إذا ضحك، وطابت نفسه22، فهذا يعني أن البخل في الضحك والإسراف في القطوب والعبوس اللذين يساعدان على عدم الإنفاق والتحلي بالشح والمنع . لأنهم يعتقدون أن الإنفاق لا يكون إلا من الإنسان الذي يتصف بالبشاشة وسعة الصدر، والابتسامة التي لا تفارق محياه، وسنكتفي في حديثنا عن البخل في المأكل بحديث يبين أن البخلاء يمنعون أنفسهم من الأكل حتى ولو أحضر لهم ، لأن الكلام يطول في هذا الجانب من البخل والمقام لا يسمح لنا بذلك ، والأمثلة التي أوردها الجاحظ كثيرة ، ويكفينا منها ما قل ودل في مقامه، والمثال الذي.سندرجه يتعلق بقوله محمد بن علي المؤمل " قاتل الله رجالا كنا نؤاكلهم : ما رأيت قصعة قط رفعت من بين أيديهم إلا وفيها فضل ! ! وكانوا يعلمون أن إحضار الجدي إنما هوشيء من آتين الموائد الرفيعة وإنما جعل كالعاقبة والخاتمة وكالعلامة اليسر والفراغ وأنه لم يحضر للتمزيق والتخريب ، وإن أهله لو أرادوا به السوء لقدموه قبل كل شيء لتقع الحدة به ، بل ما أكل منه إذا جئ به إلا العابث وإلا للذي لو لم يره ، لقد كان رفع يده، ولم ينتظر غيره ولذلك قال أبو الحارث جمين، حين رآه لا يمس هذا المدفوع عنه ولولا أنه على ذلك شاهد الناس، لما قال ما قال "23. يبدو مما سلف أن البخلاء جعلوا من المأكل، أو بالأحرى كل ما له علاقة بالتغذية عدوا لسياستهم الاقتصادية التي تنبني على الشح والتقتير في الإسراف على ملذات البطن، حيث عززوا ذلك بالحجج الواهية التي تبدو في الظاهر مقنعة، لكنها تقوم على التنافر والتناقض، فكيف للإنسان أن يتحرك بدون أكل أو أن يسعى للبحث عن الأموال بالطرق المعروفة عند البخلاء إذا سلمنا جدلا بظاهرة البخل. 1-3-2- البخل في المشرب. لقد شمل البخل إلى جانب المأكل لدى البخلاء المشرب وذلك أن الجاحظ بين هذا الجانب من مجموعة من الحكايات التي ذكرها في رسالة البخلاء، ومنها ما حكاه عن المسجديين أثناء مناقشاتهم ومذكراتهم في البخل قال : " فقال شيخ منهم ماء بئرنا – كما قد علمتم – ملح أجاج لا تقربه الحمار، ولا تسيغه الإبل، وتموت عليه النخل، والنهر منا بعيد، وفي تكلف العذب علينا مؤنة ، فكنا نمزح منه للحمار فاغتسل معه، وانتفض علينا من أجله ، فصرنا بعد ذلك نسقيه العذب صرفا وكنت أنا والنعجة كثيرا ما نغتسل بالعذب، مخافة أن يعتري جلودنا منه مثل ما اعترى جوف الحمار، فكان ذلك الماء العذب الصافي، يذهب باطلا ، ثم انفتح لي فيه باب من الإصلاح ، فعمدت إلى ذلك المتوضأ، فجعلت في ناحية منه حفرة وصهرجتها وملستها، حتى صارت كأنها صخرة منقورة، وصوبت إليها المسيل فنحن الآن إذا اغتسلنا صار الماء إليها صافيا، لم يخالطه شيء والحمار أيضا لا تقزز له من ماء الجنابة وليس علينا حرج في سقيه منه ، وما علمنا أن كتابا حرمه ولا سنة نهت عنه، فربحنا هذه منذ أيام ، وأسقطنا مؤنة على النفس والمال، مال القوم وهذا بتوفيق الله ومنه 24. فهذه الحكاية تبين مدى إلحاح البخلاء على عدم الإسراف في الماء، من دون أن تكون مقصديتهم الحفاظ على الماء كمكون أساسي في الحياة ، وإنما لغاية اقتصادية مطبوعة فيهم، فكيف يعقل أن تدفع الحمار لشرب الماء المدنس بعد الوضوء، وعندما يمتنع عن شربه، تبحث له عن حيلة أخرى لتورطه في شربه من جديد، فهذا السلوك في التعامل مع الماء لا يقصد من ورائه البخلاء إلا عدم الإنفاق والإسراف في الماء ، لأنهم من أعداء النفقة في كل شيء، وقد يجتمع في حكاية عن البخلاء ما يدل على المشرب والمأكل كما في الحكاية التالية : " وأبو عبد الله هذا من أطيب الخلق وأملحهم بخلا، وأشدهم أدبا، دخل على ذي اليمينين طاهر بن الحسين؛ وقد كان يعرفه بخرسان بسبب الكلام، فقال له : منذ كم أنت مقيم بالعراق يا أبا عبد الله ؟ فقال : ( أنا بالعراق منذ عشرين سنة وأنا أصوم الدهر منذ أربعين سنة)، فضحك طاهر وقال : سألنا أبا عبد الله عن مسألة وأجبتنا عن مسألتين "25 . فالبخل من خلال إجابة أبي عبد الله عن سؤال طاهرة بن الحسين ( أنا بالعراق منذ عشرين سنة ، أنا أصوم الدهر منذ أربعين سنة ) يقتضي عدم الإنفاق في المأكل والمشرب، لأن الصيام يقوم على الامتناع عن شهوتي البطن والفرج من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وبذلك تقل النفقة على المأكل والمشرب وبالتالي يتحقق الاقتصاد للبخلاء. . 1-3-3 – البخل في الملبس : تسري كلمة ملبس في هذا السياق على كل ما يلبس لحماية الإنسان من الربد والحر، وكل ما يؤدي جسمه من الخارج، من نعل وسراويل وسلاهيم وغيرها . ولم يسلم هذا الجانب بدوره من حياة البخلاء من التقتير وعدم الإنفاق عليه، ولتأكيد ذلك نورد الحكاية التالية التي جاءت في سياق رد هارون بن أبي محمد على بني عمه الذين ذموا مذهبه في البخل، قـــال : " وعبتمـوني بخصف النعــال ، وتصديـر القميــص، وحيـن زعمــت أن المخصوفة أبقى وأوطأ وأوقى، وأتقى للكبر، وأشبه بالنسك وأن الترقيع من الحزم، وأن الاجتماع من الحفظ، وأن النفرق مع التضييع، وقد كان النبي صلي الله عليه وسلم يخصف نعله ، ويرقع ثوبه، ويلطع أصبعه، ويقول: لو أتيت بذراع لأكلت، ولو دعيت إلى كراع لأجبت، ولقد لفقت سعدى بنت عوف إزاء طلحة، وهو جواد قريش، وهو طلحة الفياض ، وكان في ثوب عمر رقاع أدم، وقال من لم يستحي من الخلال خفت مؤنتة وقل كبره، وقالوا : لا جديد لمن لا يلبس الخلق "26. والعجيب في هذه الحكاية أن التزام البخيل بسلوكه، بل ودعوته الضمنية إليه تقوم على الحجة والبرهان، فقد احتج لترقيع النعال والثياب بالرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة الذين كانوا يلبسون المرقع من اللباس ( فقد كان النبي –ص – يخصف نعله ويرقع ثوبه / ولقد لفحت سعدى بنت عوف إزاء طلحة، وهو جواد قريش/ وكان في ثوب عمر رقاع من أدم ). فهذه الأدلة وغيرها مقنعة بالنسبة للمخاطب، ما لم يتمعن في جوهرها، ولم يربطها بسياقاتها، غير أن المخاطب يزداد إقناعا عندما يسمع أن ترقيع الثوب يجمع مع الإصلاح التواضع وخلاف ذلك يجمع مع الإسراف التكبر وقد زعموا أن الإصلاح أحد الكسبين ، كما زعموا أن قلة العيال أحد اليساريتين، وقد جبر الأحنف يد عنز ، وأمر بذلك النعمان وقال عمر : من أكل بيضة، فقد أكل دجاجة ، وقال رجل لبعض السادة أهدي إليك دحاجة ؟ فقال إن كان لا بد فاجعلها بياضة ، وعد أبو الدرداء العراق جزر البهيمة "27. 1-3-4 البخل في وسائل الإضاءة . قلنا سابقا إن البخل أتى على جميع حياة البخلاء، وعنصر الإضاءة قسط لا يستهان به من لمسات البخلاء وتمتعهم من الاستفادة من النور الذي تمنحه وسائل الإضاءة من قنديل ومسرجة وغيرها من الوسائل التي تؤدي مثل هذه الوظيفة، ويتجلى ذلك في ما قاله مثني بن بشير أن أبا عبد الله المتروزي دخل على شيخ من أهل خراسان، وإذا هو قد استصبح في مسرجة خزف من هذه الخزفية الخضر، فقال له الشيخ : لا يجيء والله منك أمر صالح أبدا عاتبتك في مسارج الحجارة فأعتبتني بالخزف، أو ما علمت أن الخزف والحجارة يحسوان! الدهن حسوا ؟ قال : جعلت فداك دفعتها إلى صديق لي دهان، فألقاها في المصفات شهرا، حتى رويت من الدهن ريا لا تحتاج معه أبدا إلى شيء، قال : ليس هذا أريد هذا دواؤه يسير، وقد وقعت عليه، ولكن ما علمت أن موضع النار من المسرجة في طرف الفتيلة لا ينفك من إحراق النار، وتجفيفه، وتنشيف ما فيه ؟ ومتى ابتل بالدهن وتسقاه، عادت النار عليه فأكلته ، هذا دأبهما، فلو قست ما يشرب ذلك المكان من الدهن، بما يستمده طرق الفتيلة منه لعلمت أن ذلك أكثر. وبعد هذا فإن ذلك الموضع من الفتيلة والمسرجة لا يزال سائلا جاريا، ويقال إنك متى وضعت مسرجة فيها مصباح، وأخرى لا مصباح فيها لم تلبث إلا ليلة أو ليلتين حتى ترى السفلى ملآئة دهنا، واعتبر ذلك بالملح الذي يوضع تحت المسرجة والنخالة التي توضع هناك لتسويتها وتصويبها، فكيف تجدهما ينعصران دهنا. وهذا كله خسران وغبن ، لا يتهاون به إلا أصحاب الفساد، على أن المفسدين، إنما يطعمون الناس، ويسقون الناس، وهم على حال لا يستخلفون شيئا ، وإن كانت روثا وأنت تطعم النار وتسقي النار، ومن أطعم النار جعله الله يوم القيامة طعاما للنار 28، فالحوار الذي دار بين الشيخ والمروزي تمحور حول كيفية الاقتصاد في الدهن الذي يستعمل للمسرجة، حيث عاتب أبو عبد الله المروزي السيخ الخراساني على استعمال مسرجه الخزف، لأنها لا تقتصد في الدهن وأعطاه الحجة على ذلك حتى يؤكد صحة ما يرمي إليه، حيث أمره بأن يضع مسرجة فيها مصباح ، وأخرى لا مصباح فيها ، فيضع الأولى فوق الثانية، وبعد ليلة أو ليلتين سيجد السفلى ملآنة بالدهن، بمعنى أنه يضيع الدهن بسبب المسرجة التي ترشح، كما أنه نبهه إلى أن هذا الدهن خسران وغبن، وأنه أيضا يسقي النار ويطعمها ، ومن أطعم النار جعله الله يوم القيامة طعاما للنار. فالأدلة التي ساقها الشيخ الخراساني للتدليل على مشروعية البخل في دهن المسرجة ، هي في حد ذاتها مثار للضحك، لأنه يحاول بها إعطاء الحجة على شيء لا يمكن أن يتحقق ، فماذا سيفعل المروزي إذن ، إذا لم يستعمل مسرجة الخزف، وهل سيبقى بجانبها، يفرغ لها الدهن نقطة نقطة أثناء استخدامها ؟ ومثل هذا السؤال طرحه الشيخ على المروزي لكي يجد حلا للمشكلة تلك :" قال الشيخ : فكيف أصنع جعلت فداك ! قال تتخذ قنديـــلا، فإن الزجـــاج أحفظ من غيره، والزجاج لا يعرف الرشح ولا النشف، ولا يقبل الأوساخ التي لا تزول إلا بالدلك الشديد، أو بإحراق النار، وأيهما كان فإنه يعيد المسرجة إلى العطش الأول، والزجاج أبقى على الماء والتراب من الذهب والإبريز، وهو مع ذلك مصنوع، والذهب مخلوق، فان فضلت الذهب بالصلابة، فضلت الزجاج بالصفاء والزجاج مجل والذهب ستار، ولأن الفتيلة إنما تكون في وسطه، فلا تحمي جوانبه بوهج المصباح، كما يحمي بموضع النار من المسرجة وإذا وقع شعاع النار على جوهر الزجاج، صار المصباح والقنديل مصباحا ، واحدا، ورد الضياء كل واحد منهما على صاحبه، واعتبر ذلك بالشعاع الذي يسقط على وجه المرآة، أو على وجه الماء أو على الزجاجة، ثم انظر كيف يتضاعف نوره، وإن كان سقوطه على عين إنسان أغشاه وربما أعماه 29. فالجوانب الذي اقترح المروزي على الشيخ بمثابة حل للدهن الذي أقنعه بضياعه عندما يستعمل مسرجه الخزف في الإضاءة، لذلك نبهه إلى أهمية القنديل الذي يصنع من الزجاج ، مبينا في سياق ذلك فضائله في الاقتصاد، وفي الإضاءة، وقد أكد ذلك بآية قرآنية تعتبر دليلا قاطعا ذا مرجعية دينية لا تقبل النقاش، والمتمثل في قوله تعال : ( الله نور السموات والأرض، مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، المصباح في زجاجة، الزجاجة كوكب دري ، يوقد من شجرة مباركة زيتونة، لا شرقية، ولا غربية، يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه ناره نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ) والزيت في الزجاجة نور على نور وضوء على ضوء مضاعف، هذا مع فضل حسن القنديل على حسن مسارج الحجارة والخزف "30 . 1-3-5 – البخل بالمال : يعتبر المال هو محرك الطمع لدى البخلاء وهاجسهم في الحياة، فهم يفعلون المستحيل من أجل حفظة وعدم ضياعه من جهة، كما يفعلون المستحيل للحصول عليه من جهة ثانية كما أوضحنا ذلك سابقا عندما تحدثنا عن أصناف البخلاء وطرقهم في كسب المال، غير أنهم قد يقبلون المدح من الشعراء مموهين إياهم بالعطاء دون جدوى كما سنرى في المثال التالي : " ومثل هذا الحديث ما حدثني به محمد بن بشي، عن وال كان بفارس، إما أن يكون خالد أخو مهرويه، أو غيره، قال: بينما هو يوما في مجلس، هو مشغول بحسابه وأمره، وقد احتجب جهده، إذا نجم شاعر من بين يديه، فأنشده شعرا مدحه فيه وقرظة ومجده، فلما فرغ قال: قد أحسنت، ثم أقبل كاتبه، فقال: أعطه عشرة ألاف درهم ففرح الشاعر فرحا قد يستطار له، فلما رأى حاله قال، وإني لأرى هذا القول قد وقع منك هذا الموقع، أجعلها عشرين ألف درهم، وكاد الشاعر يخرج من جلده، فلما رأى فرحه قد تضاعف، قال إن فرحك ليتضاعف على قدر تضاعف القول، أعطه يا فلان أربعين ألفا، فكاد الفرح يقتله، فلما رجعت إليه نفسه، قال له: أنت ( جعلت فداك) رجل كريم، وأنا اعلم أنك كما رأيتني قد ازددت فرحا، زدتني في الجائزة وقبول هذا منك، لا يكون إلا من قلة الشكر له، ثم دعا وخرج، قال فأقبل عليه كاتبه، فقال: سبحان الله هذا كان يرضى منك بأربعين درهما، تأمر له بأربعين ألف درهم، قال: ويلك ! وتريد أن تعطيه شيئا، قال : ومن إنفاذ أمرك بد ؟ قال: أيا أحمق إنما هذا رجل سرنا بكلام وسررناه بكلام، هو حين زعم أني أحسن من القمر، وأشد من الأسد ، وأن لساني أقطع من السيف، وأن أمري أنقد من السنان، جعل في يدي من هذا شيئا ؟ أرجع به إلى شيء، ألسنا نعلم أنه قد كذب ؟ ولكنه قد سرنا حين كذب لنا، فنحن أيضا نسره بالقول، ونأمر له بالجوائز، وإن كان كذبا ؟ فيكون كذب بكذب وقول بقول، فأما أن يكون كذب بصدق، وقول بفعل، فهذا هو الخسران الذي ما سمعت به !!. "31 فمربط الفرس في المثال الذي يبرز البخل في إنفاق المال المؤدى إلى الهزل والضحك هو عندما سأل الكاتب سيده متعجبا عن السخاء الذي أظهره للشاعر، والذي بالغ فيه، فأجابه متنكرا عما إذا كان ينوي إنفاقه له، والحق أنه رد الكذب بالكذب والقول بالقول كحجة دامغة على تصرفه اتجاه الشاعر، كما أنه أكد له أنه إذا قبل الكذب بالصدق والقول بالفعل فذلك هو الخسران الذي ما سمع به . هكذا يظهر تمسك البخيل بالمال عن طريق الحيلة على الآخر، ولو استغله، كما فعل مع الشاعر الذي اعتبر شعره كذبا، آخذ بالقولة المشهورة:" أعذب الشعر أكذبه " وكذلك بالحيلة والدهاء ليسره، بكلامه كما سره بشعره دون أن يمده ولو بدرهم واحد . وقد نزداد غرابة إذا علما أن البخلاء يعتبرون أن الخلف من الوسائل التي تضيع المال وتذهب به قال: " وقلت : لأحمد بن هشام، وهو يبني داره ببغداد: إذا أراد الله ذهاب مال رجل جعله يرجو الخلف ! والله ما أهلك الناس ولا أفقر بيوتهم، ولا ترك دورهم بلا وقع إلا الإيمان بالخلف ! وما رأيت جنة قط أوقي من اليأس "32. بناء على ما سلف تبين أن أصحاب البخل جعلوا من سلوكهم تاجا يرتدون أينما حلوا ارتحلوا، فقد لازمهم في جميع مجريات حياتهم من مأكل ومشرب وملبس ونفقة، فكان لابد أن يسير في عروقهم كالدم، مما يجعله مطبوعا فيهم؛ وهو ما أكده الجاحظ في حديثة عن بخل أهل مرو، جاء في حديثه ، فحدثت بهذا الحديث أحمد بن رشيد، فقال: كنت عند شيخ من أهل مرو، وصبي له صغير يلعب بين يده، فقلت له: إما عابثا، وإما ممتحنا: أطعمني من خبركم، قال لا تريده هو مر ! فاسقني من مائكم، قال: لا تريده هو مالح ! قلت: هات من كذا وكذا . قال: لا تريده هو كذا وكذا إلى أن عدد أصنافا كثيرة . كل ذلك يمنعه ويبغضه إلي ! فضحك أبوه، وقال: ما ذنبنا هذا من علمه ما نسمع، يعني أن البخل طبع فيهم، وفي أعراقهم وطينتهم " 33 ولم يقف البخل عند أهل مرو، بل طال حيواناتهم ." قال ولم أر الديك في بلدة قط إلا وهو لا قط، يأخذ الحبة بمنقاره ثم يلفظها قدام الدجاجة إلا ديكة مرو، فإني رأيت ديكة مرو، تسلب الدجاج ما في مناقيرها من الحب ! قال: فعلمت أن بخلهم شيء في طبع البلاد وفي جواهر الماء، فمن ثم عم جميع حيوانهم "34. والبخل بالمعنى الذي حللناه صفة مذمومة طبع بها فئة من الناس، واحتجوا لصحة ما يقومون به بحجج تبدو دامغة في ظاهرها، لكن عندما تعرض على الواقع، ويتم التدقيق في فهم حقيقتها تبدو واهية ومتكلفة، فكيف يعتبر البخل موضوعا للهزل والضحك ؟ . 1-4- البخل من موضوعات للهزل والضحك: نعلم أن البخل من الظواهر الشاذة والمذمومة التي عرفها العصر العباسي، والأمثلة التي حللنا أعلاه دليل قاطع على ذلك، إلا أنه يبقي أن نبحث عن الخيوط الرفيعة التي تربط البخل بالهزل والضحك، وهي بالطبع كثيرة، فالجاحظ من خلال رسالة ( البخلاء ) حاول السخرية من البخلاء، وخاصة من خلال الانتقادات اللاذعة التي وجه لهم ، يقول " وليس عجبي ممن خلع عذراه في البخل، وأبدى صفحته للذم، ولم يرض من القول إلا بمقارعة الخصم، ولا من الاحتجاج إلا بما رسم في الكتب، ولا عجبي من مغلوب على عقله، مسخر لإظهار عيبه، كعجبي ممن قد فطن له وعرف ما عنده، فموه شيئا لا يقبل التمويه، ورقع خرقا لا يقبل الرقع، فلو أنه كما فطن لعيبه، وفطن لمن فطن لعيبه، فطن لضعفه على علاج نفسه، وعن تقويم أخلاطه وعن استرجاع ما سلف من عاداته وعن قلبه أخلاقه المدخولة إلى أن تعود سليمة، لترك تكلف ما لا يستطيعه، ولرمح الإنفاق على من يذمه، ولما وضع على نفسه الرقباء، ولا أحضر مائدة الشعراء، ولا خالط برد الآفاق، ولا لابس الموكلين بالإخبار، ولا استراح من كد الكلفة، ودخل في عمار الأمة ."35 فالجاحظ هنا وصف البخلاء بأوصاف قبيحة، متعجبا منهم لأنهم يقبلوا الذم لأنفسهم وهم حمقى ، مغلوبون على عقولهم، ومسخرون لإظهار عيوبهم، وهم بأفعالهم مرضى ومرضهم مرض نفسي، بل أن الأخطر من ذلك أنهم، أظهروا الجهل والغباوة، وانتحلوا الغفلة والحماقة، ثم احتجوا بمعاني شداد، وبألفاظ حسان، قال : " أو ليس لو أظهر الجهل والغباوة وانتحل الغفلة والحماقة، ثم احتج بتلك المعاني الشداد، وبالألفاظ الحسان، وجودة الاختصار وبقريب المعنى، وبسهولة المخرج، وإصابة الموضع، فكان ما ظهر وبيانه ، مكذبا لما ظهر من جهله ونقصانه، ولم جاز أن يبصر بعقله البعيد الغامض، ويعيي عن القريب الجليل ؟36. وفي هذه الانتقادات التي ذكرنا ردا على اللذين طرحا أسئلة عما إذا كان الجاحظ بخيلا أم لا . وهما محققا الكتاب ( أحمد العوامري وعلي الجازم ) ، قالا : " وكثيرا ما عرض لنا في أثناء قراءة كتاب البخلاء سؤال حيرنا في الإجابة عنه: أكان الجاحظ بخيلا ؟ وهو يسخر من البخلاء ويرسل الضحك عاليا من كثير من أعمالهم، وينسب إليهم كل ما يحط القدر، ويسقط المروءة، ولكنه في غضون ذلك كله يلقنهم الحجج على حس الاتصاف بادخار المال، وأنه الحزم بعينه، والتدبير الذي هو عماد الحياة المتزنة الفاضلة "37 ، وينتهيان إلى ترجيح كون الجاحظ بخيلا اعتمادا على ولوع الناس بالحديث في الموضوعات التي تتصل بهم، كما يحتجان بإسهابه في رسالة مدح البخل وإيجازه في رسالة ذم البخل 38. وفي رٍأينا الخاص، ومن خلال تتبع الحكايات التي أوردها الجاحظ * في رسالته يتضح أنه بعيد كل البعد عن البخل، ولو كان قريبا منهم ومنتسبا إليهم لما انتقدهم نقدا لاذعا، ولما ذم البخل كما أوضحنا أعلاه -الانتقادات التي وجهها للبخلاء- وأما قولهم إنه أسهب في رسالة مدح البخل وأجاز في رسالة ذم البخل، فيمكنه إرجاعه إلى الواقع العباسي الذي يعرف تتضارب المتناقضات، وأن ذكر البخل سواء بمدحه أو ذمه هو في حد ذاته تشنيع بالبخل وفضح هذه الظاهرة الممقوتة في المجتمع، لأنها ظاهرة شاذة خاصة إذا علمنا أن الدولة العباسية دولة إسلامية ، والإسلام يدعو إلى الكرم والسخاء، ويمقت الشح والتقتير والبخل*. ومن القضايا المثيرة للهزل والضحك لدى البخلاء الذهول يقول الدكتور محمد العمرى " المسخور منه في نظر الجاحظ ، شخص يقع في ذهول عن المقام فيخفف في توجيه الحجة لا في استجلابها، يجمد عند نوازعه النفسية فيورد كل الحجج التي تتجه في اتجاه الرغبة فيضع علامة (+) لكل ما يرغب فيه وعلامة (-) لكل ما لا يرغب فيه غافلا عن المحتوى والقيم العاطفية الملونة للعلامتين – إن البرتقالة وحبة الطماطم تتفقان في الاستدارة واللون ولكنهما تحملان كما قال جان كوهن قيمة عاطفية مختلفة، النيل والوضاعة، ومن ثم يكون التشبيه بواحدة منها ذا حمولة ساخرة (الطماطم ) ، ويكون التشبيه بالثانية مفعما بالجدية في حين يظل الذاهل مشدودا إلى الحجج واللون 39. وقد مثل محمد العمري للذهول بمثال من البخلاء ، قال " ولنأخذ مثلا لذلك تمجيد أبي عبد الرحمان للرؤوس: لقد شغل أبو عبد الرحمان برفع شأن الرأس، لأنه يوفر له مزايا اقتصادية، فأورد كل المعارف الدقيقة " التي ترفع من شأنه بشكل يثير الإعجاب، بل لقد أعاره الراوي من معارف بدون حساب ولا رقابة، ولكنه نسي بل تناسى دهاء أن ينبه إلى أن من هذه المعارف ما لا يصلح وصفا للرأس باعتباره مادة استهلالية: لحما، فتركه يتحدث عنه أيضا باعتباره أنبل عضو في الجسد في مقام الطبخ1. قال الجاحظ : " وكان أبو عبد الرحمان يعجب بالرؤؤس ويجمدها ويصفها وكان لا يأكل اللحم ألا يوم أضحى أو من بقية أضحيته أو يكون في عرس أو دعوة وكان سمى الرأس عرسا لما يجتمع فيه من الألوان الطيبة وكان يسميه مرة الجامع، مرة الكامل، وكان يقول الرأس شيء واحد وهو ألوان عجيبة وطعوم مختلفة ، كل قدر وكل شواء فإنما هو شيء واحد والرأس فيه الدماغ فطعم الدماغ على حدة وفيه العينان وطعمها على حدة، وفيه الشحمة التي بين أصل الأذن ومؤخر العين وطعمها على حدة، على أن هذه الشحمة خاصة، أطيب من المخ، وأنعم من الزبد، وأدسم من السلاء، وفي الرأس اللسان، وطعمه شيء على حدة، وفيه الخيشوم والغضروف الذي في الخيشوم، وطعمهما شيء على حدة، وفيه لحم الخدين وطعمه شيء على حدة، حتى يقسم أسقاطه الباقية "40. فهذا الوصف الدقيق للرأس يجعله أفضل اللحم، غير أن ذلك نتيجة لبخله،لأن الرأس أرخص اللحم، وكذلك لذهوله وغفلته التي تضع الأشياء في غير مواضعها، وهي ما يثير فينا الهزل والضحك الذي ليس له حدود، لأنه يسير في خط واحد مع أوصاف أبي عبد الرحمان التي تجاوزت حد المعقول، والمنطق السليم، فقد قال أيضا: " الرأس سيد البدن ... وفيه الدماغ، وهو معدن العقل كما أن النفس هي المدركة والعين هي باب الألوان، والنفس هي السامعة الذائقة، وإنما الأنف والأذن بابان، ولولا أن العقل في الرأس لما ذهب العقل من الضربة تصيبه وفي الرأس الحواس، الخمس وكان ينشد قول الشاعر : إذا ضربوا رأسي في الرأس أكثري وعود عند المتقي ثم سائري"41 لقد علق محمد العمري على موقف أبي عبد الرحمان من الرأس مبينا تصوير الجاحظ لذهوله : قال : " لقد أراد الجاحظ هنا تصوير ذهول البخيل عن موضع الحجة بسبب هيمنة رغباته النفسية، فليس الذي ينقصه هو المعرفة، بل أن البرهنة – من طرف الجاحظ- على سعة المعرفة ودقتها مقصود لإبراز سوء توظيفها، والذهول هو أحد المبادئ الكبرى في تفسير السخرية، وأحد أهم تقنيات جلب الضحك، وقد عبر عنه أحيانا بالغفلة ".42. وللتمثيل على الذهول والغفلة باعتبارهما مجلبا للسخرية المؤدية للهزل والضحك، نورد قصة أبي الهذيل أستاذ الجاحظ الذي كانت دجاجته المهداة لمويس بن عمران مضرب المثل المثمر لسخرية الناس واستهزائهم منه قال الجاحظ: " كان أبو الهذيل أهدى إلى مويس دجاجة، وكانت دجاجته التي أهداها دون ما كان يتخذ لموسى، ولكنه بكرمه وبحسن خلقه أظهر التعجب من سمنها، وطيب لحمها، ويعرف بالإمساك الشديد، فقال: وكيف رأيك يا أبا عمران تلك الدجاجة ؟ قال كانت عجبا من العجب ! فيقول وتدري ما جنسها ؟ وتدري ما سنها؟ فإن الدجاجة إنما تطيب بالجنس والسن، وتدرى بأي شيء كنا نسميها ؟ فلا يزال في هذا، والآخر يضحك بضحك نعرفه نحن ولا يعرفه أبو الهذيل، وكان أبو الهذيل أسلم الناس صدرا وأوسعهم خلقا، وأسهلهم سهولة، فإن ذكر دجاجة قال: أين كانت يا أبا عمران من تلك الدجاجة في الدجاجة ؟ فإن ذكروا بطة أو عناقا أو جزورا أو بقرة، قال فأين كانت هذه الجزور في الجزر من تلك الدجاجة في الدجاج ؟ وإن استسلمن أبو الهذيل شيئا من الطير والبهائم، قال لا والله، ولا تلك الدجاجة وإن ذكروا عذوبة الشحم قال: عذوبة الشحم في البقر والبط، وبطون السمك والدجاج، ولا سيما ذاك الجنس من الدجاج، وان ذكروا ميلاد شيء أو قدوم إنسان.قال: كان ذلك بعد أن أهديتها لك بسنة، وما كان يبن قدوم فلان، وبين البعثة بتلك الدجاجة إلى اليوم "43 فكثرة تعجب أبي الهذيل من الدجاجة التي أهداها لمويس بن عمران فيه ذهول وغفلة لأنه بفعله هذا يظن في قرارة نفسه أنه يفتخر بالدجاجة التي أهددها لمويس، وأنه يظن أن ضحك الناس الذين يستمعون إليه ناتج عن تعجبهم من كرمه، غير أن الحال ليس كذلك، فالناس يسخرون من بخله، فهو أهدى الدجاجة، وبدأ يمنيها على صاحبه بكثرة ذكرها، حتى كأنه جعل منها مثلا يضرب في كل لحظة وحين دون مراعاة المقام أثناء المقال. وقد علق أحمد أمين في كتابه ( ضحى الإسلام) على موقف الجاحظ من شيخه أبي الهذيل في البخل قال: " فهو في يصوره، ويبالغ في تصويره كعادته، كما يصوره على شيء من الغفلة، إذ يُضحك الناس من قوله عن الدجاجة؛ وهو يظن أنهم معجبون لا مستهزئون، وهو مع بخله يفتخر بالكرم، ويدعي التبذير والإسراف، وليس عجبا أن يكون مع علمه الواسع بخيلا، وفيه غفلة ، فمن السهل اجتماع ذلك في شخص، والشواهد الواقعية عليه كثيرة، وكلام الجاحظ في شيخه مقبول، مصدق، وعلى العكس من ذلك ما اتهمه به بعض المحدثين من الفجور، وذكره الخطيب البغدادي، فقد جد المحدثون في وضع الأخبار لانتقاص المعتزلة لما بينهم من عداء44. وقال أيضا فيه احمد أمين في سياق حديثه عن أبي الهذيل" وعلى العموم فيظهر من مجموع ما نقل عنه أنه كان من ناحيته العلمية " كبير العقل واسع المعرفة ومن ناحيته اللسانية قوي الجدل فصيح المنطق، ومن ناحيته الخلقية فيه مغمز: فهو بخيل يدعي الكرم، ويهمه المظهر أكثر مما يهمه المخبر، وهو إلى الغفلة أقرب منه إلى المكر والدهاء45. وهذه هي النتيجة التي نسعى إلى تأكيدها في غمار الحديث عن قصة أبي الهذيل مع مويس بن عمران والدجاجة . ومن مظاهر الهزل والضحك في ظاهرة البخل في العصر العباسي ما يورده البخلاء من حجج قد تبدو دامغة ومتناقضة، حيث نجد كما قال محمد العمري في هذا المسار من اختلاط الحجج المناسبة وغير المناسبة نجد أبا عبد الرحمان يقرن بين الملك والضب في نفس المسار الحجي .فلكي يقنع أبو عبد الرحمان ابنه بالاقتصاد ( الإقلال من الأكل) حته على الشبه بالملائكة، فقلة الأكل تقرب " من عيش الملائكة " أي تضمن السمو والشفافية ، غير أن ذهوله عن القيمة ( المحتوى) وتمسكه بالشكل (+) جعله يرد فضيلة أخرى هي طول العمر الذي يتميز به الضب وهو يعيش بالنسيم43. قال الجاحظ: أي بني، لم صار الضب أطول شيء عمرا، إلا لأنه إنما يعيش بالنسيم، ولما قال الرسول صلى الله عليه وسلم " إن الصوم وجاء " إلا ليجعل الجوع حجازا دون الشهوات، افهم تأديب الله، فإنه لم يقصد إلا إلى مثلك "46. ولم يكتف بفضيلة العمر التي ذكر للضب، بل احتج عليها بحديث نبوي منبها ابنه بكون مضمون الحديث بخصه ويخص أمثاله، ومن الحجج الأخرى التي يعتمدها البخلاء، لتعزيز اتجاههم الاقتصادي في البخل ما يلي: " ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصية المرء يوم فقره وحاجته، وقبل أن يغرغر[ الثلث والثلث كثير] فاستحسنت الفقهاء، وتمنى الصالحون أن تنقص من الثلث شيئا، لاستكثار رسول الله صلى الله عليه وسلم الثلث، ولقوله: " إنك لئن تدع عيالك أغنياء، خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس " فغاية إيراد الحديث على هذه الشاكلة وفي هذا السياق هو البحث عن حلول مدعمة بحجج مقبولة لإعطاء مشروعية لعدم الإنفاق، أي للبخل رغم أن البخل يمنع من السؤدد، كما قال أبو عمر بن العلاء:" ما رأينا شيئا يمنع من السودد إلا وقد وجدناه في سيد: وجدناه البخل يمنع من السودد، وكان أبو سفيان بن حرب بخيلا ".47 وإلى جانب الحديث النبوي والقرآن الكريم استشهد البخلاء بالأقوال والأمثال والحكم وما جرت به عادة الناس في التحاور، ولإقناع المخاطب تماشيا مع رغباته وهواه فحسب، قال محمد العمري : لقد ألح الجاحظ على هذه المفارقة وأبدى وأعاد في تقليب وجوه اقتران المعرفة والغباء عند فئة من المجتمع جديرة بالدراسة، أما الجواب فجاء ضمنيا خلال الكتاب وخلاصته أن ملكات البخيل تابعة لهواه، فهو يسمع ويرى ما يتلاءم مع رغباته ويصيبه الصمم والعمى عنا سوى ذلك "48. والتناقض الصارخ في حجج البخلاء هو ما دعا الجاحظ إلى التساؤل الإنكاري، قال وكيف وهو الذي يجمع له بين الكد وقلة المرفق، وبين السهر وخشونة المضجع، وبين طول الاغتراب وطول قلة الانتفاع، ومع علمه بأن وارثه أعدى له من عدوه وأنه أحق بما له من وليله، أو ليس لو أظهر الجهل والغباوة، وانتحل الغفلة والحماقة ثم احتج بتلك المعاني الشداد، وبالألفاظ الحسان وجودة الاختصار، وبتقريب المعنى وبسهولة المخرج وإصابة الموضع، فكان ما ظهر من معانيه وبيانه، مكذبا لما ظهر من جهله ونقصانه ولم جاز أن يبصر بعقله البعيد الغامض ويعي عن القريب الجليل ."49. تأسيسا على ما سلف يتبين أن البخل ظاهرة شاذة من الظواهر التي تفشت في الحاضرة العباسية في ظل التحول الثقافي والاجتماعي والسياسي، وهذه الظاهرة تطورت إلى أن تشكلت في مذهب خاص له مؤسسته، وساسته ورواده، بل وله توجهاته في البخل وطرقه وأساليبه التي ساهمت في إعطاء مشروعية قطعية للبخل والبخلاء والمبينة على الحجة بمختلف أنواعها، والمتناقضة والمضطربة، وهي سبب غفلة وذهول البخلاء عن الصواب وهذه المواقف الشاذة التي تنضوي على المكر والخديعة من جهة وعلى المنطق السليم من جهة ثانية هي التي تجعل من البخل موضوع للهزل والضحك كما أسلفنا الذكر. الهوامش 1-المحكم والمحيط الأعظم، ابن سيدة،دارصادر بيروت لبنان، جذر: بخل. 2- أساس البلاغة،الزمخشري، تحقيق عبد الرحمان محمود، دار المعرفة بيروت،1979: جذر: بخل. 3-البخلاء، الجاحظ،المكتبة الثقافية، بيروت، لبنان، ص: 114. 4- نفسه، ص:6 5- نفسه، ص: 116. 6- صورة المجتمع العباسي في كتاب البخلاء، علاء الدين رمضان السيد، مجلة جذور، المجلد السابع، شتنبر 2003، ص: 380. 7- البخلاء، الجاحظ، ص: 78. 8- نفسه، ص: 79. 9- نفسه، ص: 79. 10- نفسه،ص: 79. 11- نفسه، ص: 79. 12- نفسه، ص: 79. 13- نفسه، ص: 79. 14- البخلاء، الجاحظ،، ص: 86. 15- نفسه، ص: 37/38. 16- نفسه، ص: 38 17- نفسه، ص: 23. 18- نفسه، ص: 19. 19- نفسه، ص: 19 20- نفسه، ص:88/89. 21- نفسه، ص: 98/99 22- نفسه، ص: 69 23- نفسه، ص: 23. 24- نفسه،: 18. 25- نفسه، ص: 12. 26- نفسه، ص: 13. 27- نفسه، ص: 17/18 28- نفسه، ص: 18. 29 - نفسه، ص: 18. 30- نفسه، ص: 21. 31- نفسه، ص: 21. 32- نفسه، ص: 16. 33- نفسه، ص: 16 34- نفسه، ص: 6. 35- نفسه،ص: 6. 36- البلاغة الجديدة بين التخييل والتداول، محمد العمري، إفريقيا الشرق، المغرب، 2005، ص: 114. 37- نفسه، ص: 120. *- البخل لا يصدر عن رجل كالجاحظ الذي كان كما قال طه الحاجري ( رجلا مرحا متهلل الخاطر، منطلق الوجه، نزاعا إلى الضحك، ومن ذلك ما نجد لديه من الدعوة إلى الضحك والمزاح والفكاهة والدفاع عنها، ورد ما يعترض به عليه) الفكاهة والضحك رؤية جديدة، شاكر عبد الحميد، سلسلة عالم المعرفة العدد :289.الصفحة، 269. 38- البلاغة الجديدة بين التخييل والتداول، محمد العمري،ص: 121. 39- نفسه،ص:121/122. 40- البخلاء، الجاحظ، ص: 78. 41- نفسه، ص: 78. 42- البلاغة الجديدة بين التخييل والتداول، محمد العمري، ص: 123 43- البخلاء، الجاحظ،، ص: 98. 44- ضحى الإسلام، ج3، أحمد أمين مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1973، ص: 100. 45- البلاغة الجديدة بين التخييل والتداول، محمد العمري، ص: 124. 46- البخلاء، الجاحظ، ص: 80. 47- رسائل الجاحظ،ج3، الجاحظ،، تحقيق عبد السلام محمد هارون، دار الجيل، بيروت، لبنان، 1991، ص: 184. 48- البلاغة الجديدة بين التخييل والتداول، محمد العمري، ص، 127. 49- البخلاء، الجاحظ،ص: 6.